ومن الرباعية قول عبد مناف بن ربع الهذلي: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: الذي يظهر إلى أن أصل السلك الذي هو الخيط فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح، وقتل بمعنى مقتول. لأن الخيط يسلك أي يدخل في الخرز لينظمه. كما قال العباس بن مرداس السلمي: عين تأوبها من شجوها أرق فالماء يغمرها طورا وينحدر
كأنه نظم در عند ناظمة تقطع السلك منه فهو منتثر
والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أمر نوحًا أن يحمل في السفينة أهله إلا من سبق عليه القول، أي سبق عليه من
الله القول بأنه شقى، وأنه هالك مع الكافرين.
ولم يبين هنا من سبق عليه القول منهم، ولكنه بين بعد هذا أن الذي سبق عليه القول من أهله هو ابنه وامرأته.
قال في ابنه الذي سبق عليه القول: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} ـ إلى قوله ـ {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} وقال فيه أيضًا: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} وقال في امرأته: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ} ـ إلى قوله {الدَّاخِلِينَ}. قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه نوحًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أمر أصحابه الذين قيل له احملهم فيها أن يركبوا فيها قائلًا: {بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} أي بسم الله يكون جريها على وجه الماء، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها.
وبين في سورة الفلاح: أنه أمره إذا استوى على السفينة هو ومن معه أن يحمدوا الله الذي نجاهم من الكفرة الظالمين، ويسألوه أن ينزلهم منزلًا مباركًا. وذلك في قوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}.
وبين في سورة الزخرف ما ينبغي أن يقال عند ركوب السفن وغيرها بقوله {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}. ومعنى قوله {مُقْرِنِينَ} أي مطيقين، ومنه قول عمرو بن معد يكرب: لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وقول الآخر: ركبتم صعبتي أشر وجبن ولستم للصعاب بمقرنينا
وقول ابن هرمة: وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر
قوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ}. ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أن السفينة تجري بنوح ومن معه في ماء عظيم، أمواجه كالجبال.
وبين جريانها هذا في ذلك الماء الهائل في مواضع أخر. كقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} وقوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.
وبين في موضع آخر: أن أمواج البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه كالجبال أيضًا بقوله: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} والطود: الجبل العظيم.
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}. لم يبين هنا أمره الذي جاء الذي نجى منه هودًا والذين آمنوا معه عند مجيئه. ولكنه بين في مواضع أخر: أنه الإهلاك المستأصل بالريح العقيم. التي أهلكهم الله بها فقطع دابرهم. كقوله: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}.
وقوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً}.
وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ}.
وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ}. قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً}. وبين هذا الأمر الذي جاء بقوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} ونحوها من الآيات. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَماً}. لم يبين هنا ما المراد بهذه البشرى التي جاءت بها رسل الملائكة إبراهيم ولكنه أشار بعد هذا إلى أنها البشارة بإسحاق ويعقوب في قوله: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} لأن البشارة بالذرية الطيبة شاملة للأم والأب، كما يدل لذلك قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ}.
وقوله: {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} وقوله: {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وقيل: البشرى هي إخبارهم له بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط، وعليه فالآيات المبينة لها كقوله هنا في هذه السورة: {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}.
وقوله: {قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ}.
وقوله: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} وقوله: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}.
والظاهر القول الأول: وهذه الآية الأخيرة تدل عليه لأن فيها التصريح بأن إخبارهم بإهلاك قوم لوط بعد مجيئهم بالبشرى، لأنه مرتب عليه بأداة الشرط التي هي "لما" كما ترى. قوله تعالى. {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن إبراهيم لما سلم على رسل الملائكة وكان يظنهم ضيوفًا من الآدميين، أسرع إليهم بالإتيان بالقري وهو لحم عجل حنيذ ـ أي منضج بالنار ـ وأنهم لما لم يأكلوا أوجس منهم خفية فقالوا لا تخف وأخبروه بخبرهم.
وبين في الذاريات: أنه راغ إلى أهله ـ أي مال إليهم ـ فجاء بذلك العجل وبين أنه سمين، وأنه قربه إليهم، وعرض عليهم الأكل برفق فقال لهم: {ألا تأكلون} وأنه أوجس منهم خيفة وذلك في قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}.
تنبيه
يؤخذ من قصة إبراهيم مع ضيفه هؤلاء أشياء من آداب الضيافة
.
منها ـ تعجيل القري لقوله {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}.
ومنها ـ كون القري من أحسن ما عنده، لأنهم ذكروا أن الذي عنده البقر وأطيبه لحمًا الفتى السمين المنضح.
ومنها ـ تقريب الطعام إلى الضيف.
ومنها ـ ملاطفته بالكلام بغاية الرفق، كقوله {أَلاَ تَأْكُلُونَ}.
ومعنى قوله {نَكِرَهُمْ} أي أنكرهم لعدم أكلهم، والعرب تطلق نكر وأنكر بمعنى واحد وقد جمعهما قول الأعشى: وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وروي عن يونس: أن أبا عمرو بن العلاء حدثه: أنه صنع هذا البيت وأدخله في شعر الأعشى. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}. بين الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة ما قالته امرأة إبراهيم لما بشرت بالولد وهي عجوز، ولم يبين هنا ما فعلت عند ذلك، ولكنه بين ما فعلت في الذاريات بقوله {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} وقوله {فِي صَرَّةٍ} أي ضجة وصيحة. وقوله {فصكت وجهها} أي لطمته. قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}. لم يبين هنا ما جادل به إبراهيم الملائكة في قوم لوط، ولكنه أشار إليه في العنكبوت بقوله {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}.
فحاصل جداله لهم أنه يقول: إن أهلكتم القرية وفيها أحد من المؤمنين أهلكتم ذلك المؤمن بغير ذنب، فأجابوه عن هذا بقولهم {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا}.
ونظير ذلك قوله {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ}.
{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}
قوله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}. هذا العذاب الذي صرح هنا بأنه آت قوم لوط، لا محالة وأنه لا مرد له بينه في مواضع متعددة، كقوله في هذه السورة الكريمة {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
وقوله في الحجر {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}.
وقوله {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ}.
وقوله {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}.
وقوله {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن لوطًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعًا وقال هذا يوم عصيب أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وظن أن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط، لأنهم إن علموا بقدوم ضيف فرحوا واستبشروا به ليفعلوا به الفاحشة المذكورة ـ فمن ذلك قوله هنا {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}.
وقوله في الحجر: {وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
وقوله {ويهرعون} أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، ومنه قول مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف
وقوله: {ولا تخزون} أي لا تهينون ولا تذلون بانتهاك حرمة ضيفي. والاسم منه: الخزي ـ بكسر الخاء وإسكان الزاي ـ. ومنه قول حسان في عتبة بن أبي وقاص: فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
وقال بعض العلماء: قوله {ولا تخزون} من الخزاية، وهي الخجل والاستحياء من الفضيحة. أي لا تفعلوا بضيفي ما يكون سببًا في خجلي واستحيائي، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورًا وحشيًا تطارده الكلاب في جانب حبل من الرمل. حتى إذا دومت في الأرض راجعة كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب
خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطًا بها الغضب
يعني أن هذا الثور لو شاء نجا من الكلاب بالهرب، ولكنه استحيا وأنف من الهرب فكر راجعًا إليها. ومنه قوله الآخر: أجاعلة أم الثوير خزاية على فراري أن لقيت بني عبس
والفعل منه: خزى يخزي، كرضى يرضي. ومنه قول الشاعر: من البيض لا تخزي إذا الريح ألصقت بها مرطها أو زايل الحلي جيدها
وقول الآخر: وإنِّي لا أخزى إذا قيل مملق سخى وأخزى أن يقال بخيل
وقوله: {لعمرك} معناه أقسم بحياتك. والله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه، ولم يقسم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
ولا يجوز لمخلوق أن يحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت".
وقوله: {لعمرك} مبتدأ خبره محذوف، أي لعمرك قسمى وسمع عن العرب تقديم الراء على اللام في لعمرك فتقول فيها: رعملك، ومنه قول الشاعر: رعملك إن الطائر الواقع الذي تعرض لي من طائر لصدوق
وقوله: {لفي سكرتهم} أي عماهم وجهلهم وضلالهم. والعمه: عمى القلب، فمعنى {يعمهون} يترددون متحيرين لا يعرفون حقًا من باطل، ولا نافعًا من ضار، ولا حسنًا من قبيح.
واختلف العلماء في المراد بقول لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {هؤلاء بناتي} في الموضعين على أقوال:
أحدها ـ أنه أراد المدافعة عن ضيفه فقط، ولم يرد إمضاء ما قال، وبهذا قال عكرمة وأبو عبيدة.
الثاني ـ أن المراد بناته لصلبه، وأن المعنى: دعوا فاحشة اللواط وأزوجكم بناتي. وعلى هذا فتزويج الكافر المسلمة كان جائزًا في شرعه، كما كانت بنات نبينا صلى الله عليه وسلم
تحت الكفار في أول الإسلام كما هو معروف. وقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها الذي زفتها به أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع، أرسلته إليه في فداء زوجها أبي العاص المذكور لما أسره المسلمون كافرًا يوم بدر، والقصة مشهورة، وقد عقدها الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله في غزوة بدر: وابن الربيع صهر هادي الملة إذ في فداه زينب أرسلت
بعقدها الذي به أهدتها له خديجة وزففتها
سرحه بعقدها وعهدا إليه أن يردها له غدا الخ
القول الثالث ـ أن المراد بالبنات: جميع نساء قومه، لأن نبي القوم أب ديني لهم، كما يدل له قوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وفي قراءة أبي بن كعب: "وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم" وروي نحوها عن ابن عباس. وبهذا القول قال كثير من العلماء.
وهذا القول تقربه قرينة وتبعده أخرى. أما القرينة التي تقربه فهي: أن بنات لوط لا تسع جميع رجال قومه كما هو ظاهر، فإذا زوجهن لرجال بقدر عددهن بقي عامة رجال قومه لا أزواج لهم. فيتعين أن المراد عموم نساء قومه، ويدل للعموم قوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم} وقوله: {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ} ونحو ذلك من الآيات.
وأما القرينة التي تبعده: فهي أن النَّبي ليس أبًا للكافرات، بل أبوة الأنبياء الدينية للمؤمنين دون الكافرين، كما يدل عليه قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ}.
وقد صرح تعالى في الذاريات: بأن قوم لوط ليس فيهم مسلم إلا أهل بيت واحد وهم أهل بيت لوط، وذلك في قوله {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ}. قوله تعالى: {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ}.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه لوطًا وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه، وعرض عليهم النساء وترك الرجال، فلم يلتفوا إلى قوله، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة فقال لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}. فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء.
وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم، وذلك في قوله: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ}. قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه أمر نبيه لوطًا أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل، أو وسطه أو أوله، ولكنه بين في القمر أن ذلك من آخر الليل وقت السحر، وذلك في قوله: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ}. ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمامه، ولكنه بين ذلك في الحجر بقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}. وقوله تعالى: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}. قرأه جمهور القراء {إِلاَّ امْرَأَتَكَ} بالنصب، وعليه فالأمر واضح. لأنه استثناء من الأهل، أي أسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها، واتركها في قومها فإنها هالكة معهم.
ويدل لهذا الوجه قوله فيها في مواضع. {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} والغابر: الباقي، أي من الباقين في الهلاك.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير {إِلَّا امْرَأَتَكَ} بالرفع على أنه بدل من {عَذَابَهُ أَحَدٌ} وعليه فالمعنى: أنه أمر لوطًا أن ينهي جميع أهله عن الالتفات إلا امرأته فإنه أوحى إليه أنها هالكة لا محالة، ولا فائدة في نهيها عن الالتفات لكونها من جملة الهالكين.
وعلى قراءة الجمهور فهو لم يسر بها. وظاهر قراءة أبي عمرو وابن كثير: أنه أسرى بها والتفتت فهلكت.
قال بعض العلماء: لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه. فأدركها حجر فقتلها.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ الظاهر أن وجه الجمع بين القراءتين المذكورتين أن السر في أمر لوط بأن يسري بأهله هو النجاة من العذاب الواقع صبحًا بقوم لوط، وامرأة لوط مصيبها ذلك العذاب الذي أصاب قومها لا محالة، فنتيجة إسراء لوط بأهله لم تدخل فيها امرأته على كلا القولين، وما لا فائدة فيه كالعدم، فيستوي معنى أنه تركها ولم يسر بها أصلًا، وأنه أسرى بها وهلكت مع الهالكين.
فمعنى القولين راجع إلى أنها هالكة وليس لها نفع في إسراء لوط بأهله. فلا فرق بين كونها بقيت معهم، أو خرجت وأصابها ما أصابهم.
فإذا كان الإسراء مع لوط لم ينجها من العذاب، فهي ومن لم يسر معه سواء ـ والعلم عند الله تعالى.
وقوله {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} قرأه نافع وابن كثير "فاشر" بهمزة وصل. من سرى يسري، وقرأه جمهور القراء {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} بقطع الهمزة، من أسرى الرباعي على وزن أفعل. وسرى وأسرى: لغتان وقراءتان صحيحتان سبعيتان، ومن سرى الثلاثية، قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} فإن فتح ياء {يَسْرِ} يدل على أنه مضارع سرى الثلاثية.
وجمع اللغتين قول نابغة ذبيان: أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجى الشمال عليها جامد البرد
فإنه قال: أسرت، رباعية في أشهر روايتي البيت. وقوله: سارية. اسم فاعل سرى الثلاثية، وجمعهما أيضًا قول الآخر: حتى النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
بفتح تاء "تسري" واللغتان كثيرتان جدًا في كلام العرب. ومصدر الرباعية الإسراء على القياس، ومصدر الثلاثية السرى ـ بالضم ـ على وزن فعل ـ بضم ففتح ـ على غير قياس، ومنه قول عبد الله بن رواحة: عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى
قوله تعالى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ}. ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن موعد إهلاك قوم لوط وقت الصبح من تلك الليلة، وكذلك قال في الحجر في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} وزاد في الحجر أن صبيحة العذاب وقعت عليهم وقت الإشراق وهو وقت طلوع الشمس بقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ}. قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}. اختلف العلماء في المراد بحجارة السجيل اختلافًا كثيرًا، والظاهر أنها حجارة من طين في غاية الشدة والقوة. والدليل على أن المراد بالسجيل: الطين. قوله تعالى في الذاريات في القصة بعينها: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ}، وخير ما يفسر به القرآن: القرآن. والدليل على قوتها وشدتها: أن الله ما عذبهم بها في حالة غضبه عليهم إلا لأن النكال بها بالغ شديد. وأيضًا فإن بعض العلماء قالوا: السجيل والسجين: أختان، كلاهما الشديد من الحجارة والضرب. ومنه قول ابن مقبل.
ورجلة يضربون البيض ضاحية ضربًا تواصى به الأبطال سجينا
وعلى هذا، فمعنى من سجيل: أي من طين شديد القوة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}. في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من التفسير للعلماء: اثنان منها كلاهما يشهد له القرآن، وواحد يظهر أنه ضعيف.
أما الذي يظهر أنه ضعيف فهو أن المعنى: أن تلك الحجارة ليست بعيدة من قوم لوط. أي لم تكن تخطئهم.
قاله القرطبي وغيره. لأن هذا يكفي عنه قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} ونحوها من الآيات. أما الوجهان اللذان يشهد لكل واحد منهما قرآن فالأول منهما: أن ديار قوم لوط ليست ببعيدة من الكفار المكذبين لنبينا. فكان عليهم أن يعتبروا بما وقع لأهلها إذا مروا عليها في أسفارهم إلى الشام، ويخافوا أن يوقع الله بهم بسبب تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما وقع من العذاب بأولئك، بسبب تكذيبهم لوطًا عليه الصلاة والسلام. والآيات الدالة على هذا كثيرة جدًا. كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، وقوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ}، وقوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وقوله: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا القول فالضمير في قوله {وما هي} راجع إلى ديار قوم لوط المفهومة من المقام.
الوجه الثاني ـ أن المعنى: وما تلك الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ببعيد من الظالمين للفاعلين مثل فعلهم، فهو تهديد لمشركي العرب كالذي قبله.
ومن الآيات الدالة على هذا الوجه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} فإن قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ظاهر جدًا في ذلك، والآيات بنحو ذلك كثيرة.